2011-04-07

الأثر التربوي والخلقي لتعليم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع ..


.
.


إعداد
الدكتور/ عبد الرحمن بن جميل قصاص

أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين

جامعة أم القرى – مكة المكرمة


الحمد لله العزيز الوهاب، الكبير المتعال، فاطر الأرض والسموات، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد؛
فإنّ هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
معجزة خالدة، آثاره على الأفراد والأمم واضحة ظاهرة يلحظها كل ذي عينين، 
ويهتدي إليها السعداء، ويفرح بها الخبراء من الاجتماعيين والتربويين والنفسيين .

وتعليم القرآن الكريم عملية متكاملة بين طرفين؛ مرسل ومستقبل.
الأول منهما في حال الإلقاء والتعليم، والآخر في محل التلقي والتعلم . إنها عملية متواصلة قائمة بين المعلم والتلميذ لها آثارها المتنوعة، اخترتُ منها الأثر التربوي والخلقي ليكون موضوع هذا البحث،
 وجعلت عنوانه: 
(الأثر التربوي والخُلقي لتعليم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع)
.
.



وأنا أنطلق في كتابة هذه الورقة، وتقديمها من تجربة ذاتية تلميذًا في حلقها، ومعلمًا لتلاميذها، فأكتب ذلك عن قرب، راجيًا من الله تعالى السداد والقبول، وأن ينفع بهذا البحث معدّه وقارئيه، وأن يرحمنا جميعًا.

وصلى الله وسلّم على نبيّنا وسيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وذريته. والله تعالى أعلم.


المبحث الأول : الأثر التربوي والخُلقي لتعليم القرآن الكريم على الفرد
بحمد الله تعالى ثنيتُ ركبي في هذه الحلق، متعلمًا أمسك بألواحي، وأتلقى عن معلمي، فيقوّم عوج لساني ويسدد خلله، وسوف أحاول بيان بعض الآثار التربوية والخلقية التي شعرتُ بها، ولمستها في تجربتي، من ذلك:
1- حفظ الأوقات واستثمارها :
إنّ الطالب في حلق تحفيظ القرآن الكريم يقضي فيها ما لا يقل عن ساعتين يوميًا في قراءة القرآن الكريم، واستظهار آياته، وللمنعم للنظر أن يتأمل قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» ([1]).
فينظر أيّ حفظ للأوقات واستثمار لها في حلق تحفيظ القرآن الكريم، ولو أجرينا معادلة يسيرة في سورة الفاتحة، ونظرنا إلى عدد حروفها ومضاعفة المجموع عشر مرات، مع ما تأخذه من وقت لقراءتها، لرجونا أن يكون الطالب في حلق تحفيظ القرآن الكريم أحد الاثنين الذين جاء ذكرهم في قول النبيّ r : «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل»([2]).
غير أن الوقت الذي يقضيه الطالب في حلق التحفيظ يُحْفَظُ فيه من أمور كثيرة إن لم تؤثر فيه سلبًا، فإنها لن تجرّ إليه نفعًا.
2- زيادة الإيمان :
إن النفس تزكو، والإيمان يزداد بصحبة القرآن الكريم، سواء أكان ذلك في حلق تحفيظ القرآن الكريم أو كان القارئ في خلوة بعيدًا عن أعين الناس.
وقد صرّح الله تبارك وتعالى بزيادة الإيمان عند تلاوة كتابه، والاستماع إليها ومذاكرتها في أكثر من آية، قال الله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(الأنفال: 2).
وقال الله الكريم الرحيم: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(التوبة: 124).
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى : (فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثراً عظيماً يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود ونحو ذلك) ([3]).
وقال رسول الله الهُدى r: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» ([4]).
قال النووي:(وفي هذا : دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور)شرح صحيح مسلم.
3- التميز :
إن الذي يتعلّم القرآن الكريم في حلق تحفيظ القرآن الكريم أو في غيرها، يجد من نفسه ميلاً إلى تمثل معاني هذه الآيات في أقواله وأفعاله، وهذا من أثر القرآن عليه، وبركته، فتجد عليه سمت الصالحين، ودلّهم متمثلة فيه.
ولهذا كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقولون: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون صخابًا، ولا صياحًا، ولا حديدًا) ([5]).
وقالوا: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن؛ لأن في جوفه كلام الله تعالى، وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار، وينبغي له أن يتواضع للفقراء ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء ويأخذ نفسه بالرفق والأدب، وينبغي له أن يكون ممّن يؤمن شره، ويرجى خيره، ويُسلم من ضرّه) ([6]).
وكل ذلك ليكون قدوّة لغيره، منارًا ومشعل هداية للعامة والخاصة من المسلمين، أليس يحمل في جوفه معجزة محمد r الخالدة.
وحين سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق النبيّ r أجابت السائل بقولها: كان خلقه القرآن أما تقرأ القرآن؟! قول الله U ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4) ([7]).
قال النووي: (معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأديب بآدابه
والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته) ([8]).
فجميع مكارم الأخلاق يجب أن تتمثل في أقوال وأفعال متعلم القرآن
وقارئه، ولعل هذا الأثر التربوي العظيم هو أهم ما يميّز قارئ من غيره، وهو تأكد اتصافه بجميل الأخلاق وكريمها.
4- الإحسان في التعامل والسلوك :
إن إحسان التعامل مع الآخرين مرآة يعكس للناس أثر تعلم القرآن الكريم على الفرد المسلم، ذلك أن حفظ حقوق الناس، والسماحة في البيع والشراء من الصفات التي تلقي بظلالها على القلوب، بل إن الذي يحسن معاملة الآخرين ويواجههم بما يحب أن يُواجَه به هو أهم مقومات الداعية الناجح.
قال الله تبارك وتعالى : ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(فصلت:34).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى : (كأنّه وليّ حميم: بيان لنتيجة الدفع المأمور به، أي: فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق) ([9]).
وقال r : «وخالق الناس بخلق حسن»([10])
فهذا أمرٌ من المخالقة مأخوذٌ من الخُلُق مع الخَلْق، أي: خالطهم وعاملهم، وتكلّف معاشرتهم بالمجاملة في المعاملة وغيرها، من نحو طلاقة وجهٍ, وخفض جانبٍ, وتلطّفٍ وإيناسٍ, وبذل ندًى, وتحمّل أذًى, فإنّ فاعل ذلك يرجى له في الدّنيا الفلاح, وفي الآخرة الفوز بالنّجاة والنّجاح([11]).
وإن واقع قارئ القرآن الكريم ظاهرٌ في تعامله مع الناس، فتجد لين الجانب، ودماثة الأخلاق سمة ظاهرة يلمسها الذين يعيش في محيطهم، حتى إن نبا أحد هؤلاء في بعض الأحيان، فإن القرآن يكسر هذه الحدّة، ويعيده إلى جادة الصواب، فيسكن ويؤوب. وهذا ما يميّز قارئ القرآن عن غيره.
5- تعظيم القرآن الكريم، وأهله :
إن كتاب الله تعالى الذي أنزله مهيمنًا على جميع الكتب السماوية، نزل به أفضل ملائكته، على أفضل رسله محمد r، لخير أمّة أخرجت للناس، أخرجتهم من الظلمات إلى النور حُقّ له أن يتبوأ مكانة في قلوب المسلمين تعظيمًا وإجلالاً.
فغدا المسلمون يعرفون بسمت خاص مع كتاب الله تعالى، فيحرصون على الطهارة عند تلاوته بكل أبعادها وزواياها؛ طهارة البدن وطهارة المكان وطهارة اللباس وطهارة الفم، وفوق ذلك كلّه طهارة القلب ونقاؤه من الشرك والريب والشك، كلّ ذلك من أثر تعلمهم للقرآن الكريم.قال الله تعالى:﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴿77﴾ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴿78﴾لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 – 79).وقال r في كتابه إلى أهل اليمن: «لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر» ([12]) .
وإن ممّا يؤكد تعظيم القرآن في قلب قارئه أنّ الله U صانه وهو في سمواته، قال الله تعالى : ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴿11﴾ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴿12﴾ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴿13﴾ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴿14﴾ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴿15﴾ كِرَامٍ بَرَرَةٍ(عبس: 11 – 16). وقال تعالى : ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21 – 22).
وقد أجمل القرطبي رحمه الله تعالى صورًا من تعظيم القرآن الكريم رعاية لحرمته وقدسيته، فقال: (ومن حرمته إذا وضع المصحف أن لا يتركه منشورًا، وألاّ يضع فوقه شيئًا من الكتب، حتى يكون أبدًا عاليًا لسائر الكتب علمًا كان أو غيره، ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأ ، أو على شيء بين يديه، ولا يضعه على الأرض. ومن حرمته ألاّ يمحوه من اللوح بالبصاق، ولكن يغسله بالماء ... ومن حرمته أن لا يتوسّد المصحف، ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله ... ومن حرمته أن لا يكتب على الأرض) ([13]). وقال رحمه الله تعالى: (وقد وصفه الله بأنه في كتاب مكنون، لا يمسه إلاّ المطهرون، فإذا كان فوق السموات مكنونًا محفوظًا أولى، ألا ترى أنه منهيّ أن يمسّه إلا طاهر، فأولى أن ينهى أن يعرضه للإهانة أو يغفل عنه، فيصيبه غبار البيت إذا كُنّس، أو الدخان، أو يعمل عليه حسابه، أو مفتاح حانوته، إلاّ أن يكون مصحفان فيوضع أحدهما فوق الآخر فيجوز) ([14]).
أمّا تعظيم حملة كتاب الله، وتوقيرهم، وإجلالهم، فيكفي في ذلك قول النبيّ r : «إن لله أهلين من الناس» . قالوا : يا رسول الله، من هم ؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته»([15]).
أي حفظة القرآن ، يقرأونه آناء اللّيل وأطراف النّهار ، العاملون به ، فهم أولياؤه المختصّون به ، اختصاص أهل الإنسان به([16]).قال المناوي: (سُمّوا بذلك تعظيمًا لهم، كما يقال بيت الله) ([17]).
وقول النبيّ r : «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»([18]).
ولا شكّ أن هذه المنزلة التي لحملة كتاب الله تعالى تؤثر في سلوكهم فيرتفعون عن العامّة في تصرفاتهم، ليكونوا مشاعل هدًى لهم، نماذج للأمّة تهتدي وتقتدي بأقوالهم وفعالهم.
6- الجمع بين العلم والعمل :
كان السلف رحمهم الله تعالى لا يتعلمون حروف القرآن بعيدًا عن تعلمهم لمعانيه، لذا كان أخذهم للقرآن أخذًا للعلم والإيمان معًا، لا انفصام في تعلمه وأخذه عندهم، ومنه: قول أنس رضي الله عنه : (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا) أي: عظم ([19]). ذلك لجمعهم بين العلم والعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلميّ : (حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله r أنهم كانوا يأخذون من رسول الله r عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى؛ حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل. قال: فتعلمنا العلم والعمل) ([20]).
ذلك أخذ الصحابة للقرآن من رسول الله r، وتلك طريقتهم في تعليم التابعين القرآن تربية على العلم والعمل.
فقارئ القرآن، ومتعلمه، وارث لميراث النبيّ r، جامعٌ له بين صدره، لذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب حاملي كتاب الله بقوله: (يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق فاستبقوا الخيرات لا تكونوا عيالا على الناس) ([21]).لذا فتوجيه الطلاب في حلق التحفيظ إلى العلم، يجد قبولاً في نفوسهم، واستعدادًا له، فإذا ما وضعت البرامج الجيّدة لذلك الأمر، وتربوا على صغار العلم قبل كباره، استطاعت حلقات تحفيظ القرآن الكريم أن تكون الانطلاقة للعلماء الربانيين.وقلّ أن تجدّ عالمًا ربانيًّا إلاّ وكانت حلقات تحفيظ القرآن الكريم هي اللبنة الأولى في بنائه العلمي.
فعليه أن يُدرك أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الشرف، وجعله في مصافّ العلماء، فينبغي عليه أن يدأب على مدارسة معانيه، وتفهمه، والعمل به، فهو يملك النور الذي ينير للناس طريقها إلى ربّها، وهل بعد ذلك الشرف من شرف.
 7- علو الهمّة :
إن المواظبة على حلق تحفيظ القرآن الكريم، ومجالس تعليمه ليست من السهولة التي يصبر عليها كل أحد لذا فإن عزوف الطالب عن مجالس اللهو، وصبره على حلق تحفيظ القرآن تربية له على الهمّة العالية، ينشأ من صغره على تحديد أهدافه، والسعي إليها.
وفي قصة ابن عبّاس رضي الله عنهما مثلٌ، يقول: (لما مات رسول الله r قلت لرجل من الأنصار: هلمّ يا فلان، فلنطلب العلم، فإن أصحاب رسول الله r أحياء. قال: عجبًا لك يا بن عباس، ترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله r من فيهم ؟! قال: فتركت ذاك، وأقبلت أطلب، إن كان الحديث ليبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله r قد سمعه من رسول الله r، فآتيه فأجلس ببابه، فتسفي الريح على وجهي، فيخرج إليَّ، فيقول: يا بن عم رسول الله r ،         ما جاء بك؟ ما حاجتك؟ فأقول: حديثٌ بلغني ترويه عن رسول الله r. فيقول: ألا أرسلت إليَّ، فأقول: أنا أحقّ أن آتيك. قال: فبقي ذلك الرجل؛ حتى أن الناس اجتمعوا عليَّ. فقال: هذا الفتى كان أعقل مني) ([22]).
فتوجيه الطلاب إلى حلق تحفيظ القرآن الكريم، ينمي عندهم هذا الجانب وهو الاهتمام بالأمور العالية، مع عدم إغفال جانب الترفيه في حقّهم .
8- تحصيل الحياة الطيبة :
الحياة الطيّبة المصاحبة للطمأنينة وراحة النفس، لا توجد بمعزلٍ عن كتاب الله تعالى، بل توجد في رياضه وتهب نسائمها من حِلَقه، خذ لنفسك وتأمل أين نزل القرآن، نزل في أمّة كانت ترزح تحت أعباء الجاهلية، قد اكتست من الجهل سربالاً، جعلت الواحد منهم يعبد الأصنام، ويسجد للأوثان التي يصنعها من التمر، ثم إذا جاع أكلها، وإذا كان في فلاة اختار أربع حجارة، وضع ثلاثًا منها لقدره، واتّخذ الرابعة إلهًا([23]).
قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (كنّا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسبي الجوار، يأكل القوي منّا الضعيف) ([24]).
ثم نزل عليهم القرآن فقلب حالهم، وغيّر حياتهم: (فكنا على ذلك؛ حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ... فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا) ([25]).
فهذا الهُدى الذي أنزله الله تعالى من أخذ به، أكرمه الله تعالى بالحياة الطيّبة، ومن أعرض عنه شقي في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل: 97).
قال ابن كثير: (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه r من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت) ([26]).
وقال الله تعالى ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴿123﴾ قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(طه: 123 – 126).
قال القرطبي: (ومعنى ذلك: أن الله U جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل عليه، وعلى قسمته فصاحبه ينفق ممّا رزقه الله U بسماح وسهولة، ويعيش عيشًا رافغًا، كما قال الله تعالى ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾. والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده على الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشه ضنك)([27]).
9- تسهيل طريق الخير :
رأيتُ ذلك، ولمستُ أثره، أجد طلاب التحفيظ يجدون أوقاتًا للمرح، ويجدون أوقاتًا للجدّ والاجتهاد والتحصيل فتجدّ تحصيلهم الدراسي ممتازًا، فتشعر أن ذلك من بركة انتظامه في حلق التحفيظ، أن الله تعالى يسهل له أموره، وييسر له أسباب الفلاح والنجاح.أليس هذا الطالب يسلك سبيله كل يوم إلى حلق الذكر يبتغي علمًا، وأيّ علم، تعلم كتاب الله تعالى ومدارسته، ألم يقل النبيّ r: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة» أخرجه مسلم
ومن دلائل ذلك أن الله تعالى يزيل العقبات أمامه التي تحول دون انقطاعه عن طلب العلم وتحصيله، فتجد التوفيق والسداد حليفه، وأبواب العلم تشرع أمامه، بل تجده موفقًا لفعل الخير، مُعانًا عليه، لأنّ الأعمال الصالحة هي أبواب الجنّة.
قال ابن القيّم: (وقد تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل فكما سلك طريقًا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك الله به طريقًا يحصل له ذلك) ([28]).
كل ذلك بركة إخلاصه في تعلم القرآن، وطلبه للعلم.
10- الصحبة الصالحة :
لن يظفر أحد بصحبة صالحة مثل ما يظفر الطالب في حلق تحفيظ القرآن الكريم، فحلق التحفيظ مناخًا صالحًا لأن يجتمع فيه المسلم مع أخيه المسلم على ذكر الله تعالى، ويفترقا على ذكر الله تعالى، ليكون أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم  لا ظل إلا ظله، ذكر منهم: ((ورجلان تحابا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرقا عليه)) أخرجه البخاري
فطلاب تحفيظ القرآن الكريم، لا تجمعهم دنيا، ولا يشتركون في مصلحة دنيوية حاضرة، بل لا يضمهم إلا إرادة تعلم كتاب الله تعالى، وتلاوته، ومذاكرته، تحفهم الملائكة، وتغشاهم السكينة، فهم في بيت من بيوته.
فهم من أرجى الناس لأن يشملهم هذا الصنف من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
11- تقويم اعوجاج السلوك :
كيف نقضى على الأخلاق السيئة الفردية في تعلم القرآن في حلق التحفيظ ؟ إنّ حلقات التحفيظ القرآن مكان مبارك، تتمثل فيه أخلاق حملة كتاب الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم، أناسٌ يتناصحون فيما بينهم، يتمثلون هدي كتاب ربّهم، ويترجمون معانيه في حياتهم، ويجهدون في جعله واقعًا يعيشونه.
في هذه الأجواء ينشأ طالب حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ينشأ بين قدوات يترسم خطاهم، ويستقيم بتقويمهم.
وكم هي الأخلاق السيئة التي عجزت الأسرة عن تقويم اعوجاجها، نجحت حلقات تحفيظ القرآن الكريم في دفعها، وعلاجها.
وإنّه لنورٌ على نور، إذا اجتمعت جهود القائمين على حلقات تحفيظ القرآن الكريم مع جهود الوالدين في الأسرة في اكتشاف الأخلاق السيئة وعلاجها ودفعها.

المبحث الثاني : الأثر التربوي والخُلقي لتعليم القرآن الكريم على المجتمع
إن الفرد لا يعيش بمعزل عن المجتمع، ولا شك أن أي تأثر له بأي مؤثر ينعكس ذلك على مجتمعه، لذا وجب أن ننبّه على الآثار التربوية والخلقية لتعليم القرآن على المجتمع، ومن ذلك :
( أ ) حفظ الأوقات، واستثمار طاقات الشباب فيما ينفع :
إنّ الشباب هم أعمدة النهوض بالمجتمعات، والأنصار الذين ناصروا هذا الدّين، ووفوا بالذي عاهدوا عليه رسول الله r لم يكونوا إلاّ شبابًا، لذا كان استثمار أوقات الشباب من أهم الأمور التي يجب أن تعنى بها المجتمعات، للعاقبة المحمودة التي تعود عليهم وعلى مجتمعهم، وإن من الخسران الذي تتلظى بنارها المجتمعات الفراغ الذي يعانيه الشباب المسلم، ويذهب هدرًا دون استثمار.
ويكفي لمنعم النظر لسوء عاقبة هدر فراغ الشباب قول النبيّ r: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ» أخرجه البخاري.
فالصحة التي هي عنوان الشباب، والفراغ نعمتان، والغبن والخُسْر في عدم استثمار هاتين النعمتين. قال ابن الجوزي:(قد يكون الإنسان صحيحًا )ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا
فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة؛ فهو المغبون. وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله؛ فهو المغبوط. ومن استعملهما في معصية الله؛ فهو المغبون؛ لان الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم) ([29]).
لذا فإن الفراغ إذا لم يستغل في النافع والخير كان مفسدة للشباب على وجه الخصوص، كما قال الشاعر:
إنّ الشباب والفراغ و الجِدَة      مفسدة للمرء أي مفسدة
وحلقات التحفيظ وأمثالها من مجالس التربية والتعليم هي التي تحفظ أوقات الشباب، وتستثمرها لصالح المجتمع.
( ب ) الإسهام في حفظ المجتمع :
إنّ مخرجات حلقات التحفيظ مفخرة للمجتمع، فهم نماذج للشباب الصالح الذين يحملون عبء النهوض بمجتمعاتهم، في تسهم إسهامًا كبيرًا في توجيه طاقات الشباب، وحفظ المجتمع من شرة الشباب وجنوحهم فيما إذا تركوا دون توجيه أو إرشاد.
ويلحظ هذا الأثر القوي لحلقات تحفيظ القرآن الكريم القويّة على أبناء الحي الذي تقوم فيه، في سلوكهم ومواظبتهم على الصلوات، حتى وإن كانوا لا ينتمون إلى تلك الحلقات، لأن المساجد تكون عامرة بالشباب صغار السن المحافظين على الصلوات، مما يوجد في الحي توجّهًا عامًّا على المحافظة على الصلوات والمسابقة إليها.
( ج ) نشر الفضيلة والخلق الحسن :
الفضيلة والأخلاق الحسنة التي يتحلّى بها من التحق بحلقات الذكر لتعلم كتاب الله تعالى ومدارسته أشبه ما تكون بجؤنة العطار، لا بد أن يضوع عطرها، ويجد أريجها كل من يتعامل مع صاحبها، وكذا المجتمعات تنتشر فيها الفضائل، وتعم الأخلاق الحسنة فيها لوجود حفظة كتاب الله تعالى، و بركتهم.وذلك من خلال مجالسهم الطيّبة، واتّصافهم بصفات المؤمنين التي يحث عليها القرآن الكريم، أخلاق النبيّ r.
قال r : «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك، وكير الحداد لا يعدمك من صاحب المسك إمّا تشتريه، أو تجد ريحَه. وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة» أخرجه البخاري
قال النووي: (وفيه: فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة) ([30]).
وقال: (وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعًا من تلبسه بشيء من النقائص احترامًا لهم، واستحياء منهم) ([31]).
( د ) تنشئة جيل صالح :
جيل القرآن هم الذين نزل عليهم القرآن، يشاهدون تنزيله، ويرون تأويله، يلمسون أثره في حياتهم، فتنشئة الفتيان على القرآن بعثٌ لأولئك الذين مضوا، ولن يتربى الجيل المسلم بمثل ما تربى عليه الجيل الأول، ولن يأخذ بيدها مثل القرآن الذي أخرج أمّة من الأعراب، وجعلها سادة الدنيا.
قال مالك بن أنس: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلاّ ما أصلح أولها) ([32]).
وهذا عامّ في كل أمرٍ مشى عليه الرسول r وأصحابه، ومن أجلّ ذلك : التربية التي جاء القرآن بها، وبهديه صلح أمر صحابة رسول الله r.
( هـ ) إبقاء سنة التلقي :
حلق التحفيظ تحافظ على أعظم سند عرفته البشرية، لأنّ القرآن من خاصيته أنّه لا يؤخذ إلا مشافهة، كذلك تلقاه النبيّ r من جبريل، وكذلك علّمه للصحابة، ومن شفاه الصحابة تلقى التابعون وهكذا.
قال الله تعالى:﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴿16﴾إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴿17﴾فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴿18﴾ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾     (القيامة: 16 – 19).
قال ابن عباس: (كان يحرك شفتيه إذا أنزل عليه، فقيل له: ﴿لا تحرك به لسانك﴾ يخشى أن ينفلت منه ﴿إن علينا جمعه وقرآنه﴾ أن نجمعه في صدرك، ﴿وقرآنه﴾ أن تقرأه، ﴿فإذا قرأناه﴾ يقول: أنزل عليه ﴿فاتبع قرآنه﴿18﴾ثم إن علينا بيانه﴾ أن نبينه على لسانك) ([33]).
عن عبد الله رضي الله عنه، قال: بينما نحن مع النبي r في غار بمنى؛ إذ نزل عليه والمرسلات، وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيهِ، وإن فاه لرطب بها؛ إذ وثبت علينا حية، فقال النبي r: «اقتلوها». فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي r: «وقِيَتْ شرّكم كما وُقِيتُم شرَّها» أخرجه البخاري.
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي r أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله r القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة أخرجه البخاريفهذه سنة تلقي القرآن الكريم الأخذ مشافهة، فكل قارئ للقرآن يتّصل سنده إلى هذا السند الربّاني عن محمد r عن جبريل u عن الله I .
( و ) التربية الجماعية :
إن التربية الجماعية هي من أنجح السبل في استكمال جوانب الشخصية لدى الفرد، وحلقات التحفيظ التي تساعد على الخلطة التربوية الجيّدة، والتعليم والتعلم لا يكون بغير الخلطة، ومن خلال هذه الخلطة الصالحة يتربى الطالب على الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة، مثل التضحية والبذل والإيثار والسماحة والتعاون إلى غير ذلك من الصفات التي لا يمكن اكتسابها في العزلة.
فهذه التربية الجماعية التي تهيؤها حلقات التحفيظ تساعد على تكوين مجتمع مترابط متآلف، قائم على المودة والتراحم والتعاون.وهو ما يؤكده حديث النبيّ r: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»([34]).
وفي التربية الجماعية في تعلم القرآن الاجتماع المحمود الذي يبحث سبل النجاة في الآخرة، قال ابن القيّم رحمه الله تعالى : (الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: على مؤانسة الطبع، وشغل الوقت، فهذا مضرّته أرجح من منفعته، وأقلّ ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت. الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحقّ والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها) ([35]).
( ز ) تهيئة البيئة الصالحة :
إن انتشار حلقات تعلم القرآن الكريم يفرز تجمعات للشباب الصالح في كل مكان، وأثر ذلك لا يخفى على المجتمعات المسلمة، لأن الخير إذا انتشر تأثر به أفراد المجتمع. وفي ذلك حفظ لأوقات الشباب، وتوجيه لطاقاتهم، لذلك كانت نصيحة ذلك العالم للذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم تاقت نفسه للتوبة: (انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإنّ بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنّها أرض سوء) ([36]).
قال العلماء : (في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب, والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم, وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدي بهم, وينتفع بصحبتهم , وتتأكد بذلك توبته) ([37]).
فأثر التجمعات الصالحة في بناء مجتمع صالح لا يخفى، وأثر تعلم القرآن الكريم في تكوين هذه التجمعات كذلك لا يخفى.
( ح ) القضاء على الظواهر السلبية في المجتمع :
إن مجتمعًا يتربى أبناؤه على تعلم القرآن الكريم، والتأدب بآدابه، والتحلي بأخلاقه؛ لا شك أن الظواهر السلبية ستبدأ في الاختفاء بفضل اجتهاد هؤلاء المتأدبين بآداب القرآن في القضاء عليه، والمساهمة في دفعه.
لأن القرآن يربي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويربط خيرية الأمّة بهذه القضية.
لذا فإن الظواهر السلبية في المجتمع من التقاطع والتدابر، وضياع حقوق الجوار، وأكل أموال اليتامى وظلم الأرامل، وكذلك المنكرات والفواحش إن لم تزل بالكامل فإنّها لن تكون ظاهرة في المجتمع.

المبحث الثالث : أصول وضوابط لتحقيق الأثر التربوي والخلقي لتعليم القرآن الكريم
إنّ تحديد الآثار التربوية والخلقية ينبغي أن يسند إلى أصول وضوابط تعين في تلمسها وتحقيقها، وقد جهدتُ هنا في ذكر بعض هذه الأصول والضوابط التي تدل على غيرها من الأصول والضوابط:
(1) تحققها نسبي :
الآثار التربوية والخُلقية التي يرجى تحققها من تعلم القرآن الكريم على الفرد والمجتمع؛ توجد بنسب معيّنة، فقد تكون بعض هذه الآثار ظاهرة واضحة يلمسها الناظر إليها لأول وهلة، ولكنها لا تنعدم على العموم في الفرد أو المجتمع .
لذا فإن الدعاة والمصلحون والمعلمون عليهم تأمل هذه الآثار، ومحاولة إبراز ما كان خافيًا منها، غير ظاهر ودراسة الأسباب، وتقديم الحلول.
(2) يسبق التأثر الصحيح تصور صحيح :
يجب على المعلم أن يحرص على إيصال المعاني التربوية التي يتعلمها الطالب من خلال الشرح المبسط ، لتتنقل هذه المعاني إلى سلوكهم وأخلاقهم. وأن لا يكون تعلمه للقرآن بعيدًا عن العمل به، والتأدب بآدابه من خلال فهمه للمعنى العام لها.
(3) التكامل :
يجب علينا أثناء تعليم الطالب للقرآن ولمعانيه أن لا نغفل أهمية التكامل في بنائه وتربيته مع واقعه داخل أسرته، بمعنى: يجب على القائمين على هذه الحلقات مدّ الجسور مع أسرة الطالب، وتهيئة الأجواء الأسرية له لينطلق في تعلمه للقرآن، وتطبيقه لمعانيها. وكثيرًا ما ينقطع الطالب عن تعلم القرآن بسبب الحلقة المفقودة في سلسلة التواصل بين حلقات تعليم القرآن وبين أسرة الطالب.
(4) تحقق الخيرية بالتعليم :
يقضي الطالب ما يقارب الأربع أو الخمس سنوات في إتمام حفظه لكتاب الله تعالى، وبعدها يقضي سنة واحدة لينسى القرآن بكامله.
لماذا؛ لأنّ أكثر حلقات تعليم القرآن الكريم لا تحافظ على ثمرات جهود هذه الحلقات، والأوقات التي بذلت، والأموال التي صرفت لأجل أن يتم هذا الطالب القرآن.
ومن المهم تأصيل هذا الأصل العظيم في نفوسهم بعد إتمامهم لحفظهم أن الخيرية الواردة في حديث النبيّ r : (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه) أخرجه البخاري ، لا تتحقق إلا بتعليمه للقرآن بعد تعلمه.
وبذلك نحافظ على حفظ الطالب، ونأمن من نسيانه، وذهاب جهد تلك السنوات سُدى.
ولأجل هذه الخيرية جلس أبو عبد الرحمن يقرئ القرآن ويعلمه للناس من إمرة عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى دخول الحجاج المدينة، وكان يقول: (ذاك الذي أقعدني مقعدي هذا) ([38]).
 (5) قراءة القرآن وتعلمه سنة متّبعة :
بمعنى أنّ هذه الآثار التربوية التي تحدثنا عنها لا تحقق بعيدًا عن أخذ القرآن مشافهة، فهذه سنّة متّبعة في تعلمه، لذا فإن أهل القرآن نهوا عن أخذ القرآن مباشرة عن الصحف، دون تلقيه عن أفواه المشايخ المتقنين له.
لذلك قال أهل العلم: (لا تأخذوا القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي) ([39])، وقالوا: ( لا يفتي الناس صحفيولا يقرئهم مصحفي) ([40]).
والمصحفي هو الذي أخذ القرآن عن المصحف مباشرة دون شيخ، وكذلك الصحفي الذي يكون شيخه كتابه، ومن ذلك أن اشتهر أحدهم بعيبهم قراءته لقوله تعالى: ﴿وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (نوح: 23)؛ إذا كان يقرأها (وبشرًا) ([41]).
(6) آثار تتنافى مع تعلم وتعليم القرآن :
من الآثار التي ينبغي أن يترفع عنه متعلم القرآن ومعلمه اتخاذ القرآن وسيلة للتكسب، من ذلك اشتراطه المال للتعلمأو التعليم، والانقطاع عن التعلم أو التعليم بانقطاع المال.
وأخذه الأجرة على القراءة في المحافل التي يطربون الناس فيها، ويصيحون طربًا عند سماع آيات الوعيد والتخويف.
والتخنث في اللباس من الأمور التي لا تليق بقارئ القرآن الكريم، قال الله تعالى : ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(المزمل: 5).
فهو ثقيلٌ في وزن الثواب، وثقيلٌ في التكاليف، وثقيلٌ تنزله على رسول الله r([42]).
إلى غير ذلك من الأمور التي لا تليق بحامل كتاب الله تعالى، من التلبس بالمعاصي الظاهرة، أو المجاهرة بها.
الخاتمة
الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
فلقد فرغتُ من إعداد هذا البحث من خلال معايشتي لكتاب الله تعالى، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم متعلمًا ومعلمًا.
وها أنذا أضع القلم رجاء أن أكون قد قمت بشيء من الواجب تجاه هذه الحلقات التي هي مدرسة التربية الأولى لإخراج الأجيال الإسلامية التي تتربى على كتاب الله تعالى ومعانيه.
وقد ذكرتُ أحد عشرأثرًا تربويًا وخُلقيًا على الفرد بتعلمه للقرآن الكريم.
وأتبعتها بذكر ثمانية آثار تربوية وخُلقية لتعلم القرآن على المجتمع، ثم ختمتُ ذلك بذكر قواعد وأصول في هذا الشأن بلغت ستًّا تدّل عليها.
ومن أهم التوصيات التي أختم بها هذا البحث :
                1-  الاختيار الجيّد من قبل القائمين على إدارة حلقات تعليم وتحفيظ القرآن الكريم للمعلمين الذين يجيدون المزج بين تعليم حروف القرآن وإيصال معانيه للتلاميذ.
                2-  تنظيم تقارير دوريّة لأولياء أمور التلاميذ الهدف منها ربطهم بهذه الحلقات، وجذب اهتمامهم بها.
                3-  إيجاد مرشد طلابي يهتم بشؤون الطلاب، لمعرفة أسباب تأخرهم في التعلم والحفظ، ومحاولة إيجاد الحلول لها.
                4-  الاهتمام بمن أتمّ حفظ كتاب الله تعالى؛ ليحقق الخيرية الواردة في حديث تعلم القرآن وتعليمه من خلال تعليم القرآن .
هذا، وأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا الجهد، وأن يغفر لي ويرحمني، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد.


([1])أخرجه الترمذي في فضائل، باب فيمن قرأ حرفًا من القرآن(2910)من حديث. قال الترمذي :(هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه).
([2])أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن(5026)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([3])أضواء البيان(3/443).
([4])أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر(2699)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([5])روي عن ابن مسعود رضي الله عنه. الدر المنثور(7/21)
([6])روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. تفسير القرطبي(1/21)
([7])أخرجه أحمد في مسنده(6/91)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل(746).
([8])أخرجه أحمد في مسنده(6/91)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل(746).
([9])تفسير أبي السعود(8/14).
([10])أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس(1987)من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
([11])انظر: تحفة الأحوذي(6/104).
([12])أخرجه مالك في الموطأ، كتاب النداء للصلاة، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن(468).
([13])تفسير القرطبي(1/28 – 30).
([14])التذكار في أفضل الأذكار(ص 112 – 113).
([15])أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن، وعلّمه(215)، والنسائي في الكبرى(5/17)من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه الحاكم في المستدرك(1/743)، وفال في مصباح الزجاجة(ص 29):(هذا إسناد صحيح، رجاله موثقون).
([16])انظر: حاشية السندي(1/20).
([17])فيض القدير(3/67).
([18])أخرجه أبو داود في الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم(4843)من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
([19])أخرجه أحمد في مسنده(3/120)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه(الإحسان 3/19)بلفظ(عُدّ فينا ذا شأن).
([20])أخرجه أحمد في مسنده(5/410).
([21])ذكره النووي في التبيان(ص 29).
([22])أخرجه الحاكم في المستدرك(1/188).
([23])انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي(ص 75).
([24])أخرجه أحمد في مسنده(5/291)، وصححه ابن خزيمة(4/13).
([25])التخريج السابق .
([26])تفسير ابن كثير(2/286).
([27])تفسير القرطبي(11/285 – 295).
([28])مفتاح دار السعادة(1/71).
([29])فتح الباري(11/229).
([30])شرح صحيح مسلم للنووي(16/178).
([31])شرح صحيح مسلم للنووي(1/158).
([32])ذكره ابن عبد الهادي في تنقيح أحاديث التعليق(2/423).
([33])أخرجه البخاري في التفسير، باب إن علينا جمعه وقرآنه(4928).
([34])أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب الصبر على البلاء(4032). وحسّنه الألباني في الصحيحة(939)
([35])الفوائد(ص 51).
([36])جزء من حديث أخرجه مسلم في التوبة، باب في قبول توبة القاتل(2766)من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([37])شرح صحيح مسلم للنووي(17/83).
([38])المرجع نفسه.
([39])فتح المغيث(2/262).
([40])المرجع نفسه.
([41])تصحيفات المحدثين(1/13).
([42])انظر: أضواء البيان(8/358).


.
.
لتحميل الكتاب كَاملاً ... 






.
.





هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

ماشاء الله هذا مفيد

إرسال تعليق

ومَا مِنْ [ كَاتِبٍ ] إلا سَيفنى * ويُبقي الدَّهرُ مَاكتبت يَداه
فـلا تَكتب بخطِكَ غَير شَيءٍ * يَسُركَ في القيامةِ أن تَـراه